فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

في هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق، أي: يستحقُّون العذاب الأليم.
الثاني: كما تقول: المال لزيد، فتكون لام التمليك، فذكر ملك العذاب لهم، تهكُّمًا بهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غضبه عليهم إذ قد شاع نفي الكلام في الكناية عن الغضب، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص.
وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.
وقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم، لأن من بلغ من رقة الديانة إلى حد أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.
وفي مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي يشترون بعهد الله الآية، إيذان بأن من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم، حتى ظن بعض السلف أن هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة، وكل يظن أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة، ففي البخاري، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ} الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا: كذا وكذا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيمَانِهِم ثَمَنًا قَلِيلًا} وفي العهد قولان:
أحدهما: ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكَفَّه عن معصيته.
والثاني: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق.
{أَولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُم فِي الآخِرةِ}. وفي أصل الخلاق قولان:
أحدهما: أن أصله من الخلق بفتح الخاء وهو النفس، وتقدير الكلام لا نصيب لهم.
والثاني: أن أصله الخُلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخُلُق الكريم.
{وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} فيه قولان:
أحدهما: لا يكلمهم الله بما يسرهم، لكن يكلمهم بما يسوءهم وقت الحساب لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم}.
والثاني: لا يكلمهم أصلًا ولكن يرد حسابهم إلى الملائكة.
{وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَةِ} فيه قولان:
أحدهما: لا يراهم.
والثاني: لا يَمِنُ عليهم.
{وَلاَ يُزَكِّيهِم} أي لا يقضي بزكاتهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله} الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فيما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته. اهـ.

.قال القرطبي:

ودلتْ هذه الآية والأحاديثُ أن حكم الحاكم لا يُحلّ المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانَه؛ وقد روى الأئمة عن أمّ سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ولعلّ بعضكم أن يكون ألْحن بحجّته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة». وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبنيّ على الشهادة الباطلة يُحلّ الفرج لمن كان محرّمًا عليه؛ كما تقدّم في البقرة.
وزعم أنه لو شهد شاهدا زورٍ على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوّجها ممن يعلم أن القضية باطل.
وقد شُنّع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحقُّ أن يحتاط لها وتُصان.
وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسر منها:
الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة قال: علي بن مُدْرِك أخْبرَني قال: سمعت أبا زُرْعَة، عن خَرَشة بن الحُر، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قلت: يا رسول الله، من هم؟ خابوا وخسروا. قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال: «المُسْبِل، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكاذِبِ، والمنانُ». ورواه مسلم، وأهل السنن، من حديث شعبة، به.
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا إسماعيل، عن الحُرَيري، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن أبي الأحْمَس قال: لقيتُ أبا ذر، فقلتُ له: بلغني عنك أنك تُحدِّث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما أنه لا تَخَالُني أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه، فما الذي بلغك عني؟ قلتُ: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يَشْنَؤهم الله عز وجل. قال: قلته وسمعته. قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال: الرجل يلقى العدوّ في فئة فينصب لهم نَحْرَه حتى يقتل أو يفتح لأصحابه. والقومُ يسافرون فيطول سراهم حتى يَحنُّوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم. والرجلُ يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاهُ حتى يفرق بينهما موت أو ظَعْن. قلت: ومن هؤلاء الذين يشنأ الله؟ قال: التاجر الحلاف- أو البائع الحلاف- والفقير المختال، والبخيل المنان غريب من هذا الوجه.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن جرير بن حازم قال: حدثنا عَدِيّ بن عدي، أخبرني رجاء بن حَيْوة والعُرْس بن عَمِيرة عن أبيه عَدِي- هَو ابن عميرة الكندي- قال: خاصم رجل من كِنْدةَ يقال له: امرؤ القيس بن عابس رَجلا من حَضْرمَوْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة، فلم يكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب الكعبة أرضى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيقتطِعَ بِهَا مَال أحَد لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال: «الجنة» قال: فاشهَدْ أني قد تركتها له كلها. ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي، به.
الحديث الثالث: قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو فيها فَاجِر، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ الله عَزَّ وجَلَّ وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ».
فقال الأشعث: فيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني، فقدَّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَكَ بَيَّنة؟» قلتُ: لا فقال لليهودي: «احْلِفْ» فقلتُ: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} إلى آخر الآية: أخرجاه من حديث الأعمش.
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن شَقِيق بن سلمة، حدثنا عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان» قال: فجاء الأشْعث بن قَيْس فقال: ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه، فقال: فيّ كان هذا الحديث، خاصمتُ ابن عمٍّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر لي كانت في يده، فجَحَدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيِّنَتُكَ أنَّها بِئْرُكَ وَإلا فَيَمِينُهُ» قال: قلتُ: يا رسول الله، ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري؛ إنَّ خَصْمي امرؤ فاجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان» قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رشْدين عن زَبّان، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لله تعالى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إلَيهِمْ» قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: «مُتَبَرِّئٌ مَنْ وَالِدَيهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا، ومُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ، وَرَجُلٌ أنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فكَفَر نعْمَتَهُمْ وتَبَرَّأ مِنْهُمْ».
الحديث الخامس: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هُشَيْم، أنبأنا العوّام- يَعني ابن حَوْشَبَ- عن إبراهيم بن عبد الرحمن- يعني السَّكْسَكي- عن عبد الله بن أبي أوْفَى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعْطَى بها ما لم يُعْطه، ليُوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} ورواه البخاري، من غير وجه، عن العوام.
الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ الله يَوْمَ الْقِيَامَة وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عذابٌ أليم: رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ- يَعْنِي كَاذِبًا- وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ». ورواه أبو داود، والترمذي، من حديث وكيع، وقال الترمذي: حسن صحيح. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره، ولا يميلوا إلى شيء سواه، فكل من مال إلى شيء، أو ركن بالمحبة إلى غير الله، فقد نقض العهد مع الله، فلا نصيب له في مقام المعرفة، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. والله- تعالى أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

الذين آثروا هواهم على عُقباهم، وقدَّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ فللاستمتاع بما اختاروا من العاجل خسروا في الدارين.
بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظِّ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يُخَلِّدُم في العقوبة الأبدية. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا} أخرج الستة وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة؟» قلت: لا فقال لليهودي: «احلف» فقلت: يا رسول الله إذًا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين}. إلخ.
وأخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلًا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلًا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وأخرج أحمد وابن جرير واللفظ له عن عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: «بينتك وإلا فيمينه» قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: «الجنة» قال: فإني أشهدك أني قد تركتها. فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.
والمراد بيشترون يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى، وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، وبالأيمان الإيمان الكاذبة، وبالثمن القليل الأعواض النزرة أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب {أُوْلَئِكَ لاَ خلاق لَهُمْ في الآخرة} أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم قاله الجبائي أو لا يكلمهم بشيء أصلًا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون هذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.
{وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل أنظر إليّ يريد ارحمني، وجعله الزمخشري مجازًا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثمّ جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردًا لمعنى الإحسان مجازًا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي (الكشف) إن في هذا تصريحًا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذٍ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازًا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أولًا غير واضحة بخلاف المعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] مجازًا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر. والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد.
{وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة قاله القاضي وقال الجبائي: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاءًا بالأول، وقيل: أنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناءًا على أن الآية في اليهود. اهـ.